- على ملتقى حضارتين
وُلد بولس في طرسوس سنة 5 ب. م. إسمه العبري شاول، على اسم أول ملك في
إسرائيل. واسمه الروماني بولس (أع 13: 9). هكذا اعتاد اليهود أن يأخذوا
اسماً رومانياً من أجل علاقاتهم مع اليونانيّين والرومانيّين. ويقدّم بولس
نفسه: "مختون في اليوم الثامن، من نسل إسرائيل، من سبط بنيامين، عبراني
ابن عبراني، وفي الشريعة فريسي" (فل 3: 5). هذا يعني:
-
أنه ينتمي إلِى الشعب المختار وإلى قبيلة بنيامين التي ارتبطت بسلالة داود، وفي أرضها كانت أورشليم والهيكل.
-
أنه من عائلة فلسطينية. هذا يعني أنه عرف لغة أجداده التي هي الأرامية.
-
أنه ارتبط بالحركة الفريسية التي وُلدت لتعيش الأمانة لله في ممارسة الشريعة ممارسة دقيقة.
كانت طرسوس مركزاً تجارياً هاماً. كانت مدينة مشهورة. ومنها كان الأباطرة
يأخذون من يعلّم أولادهم. كانت ملتقى الحضارة اليونانية والحضارة الشرقية.
وهكذا وُلد من سيسمّى رسول الأمم في ملتقى حضارتين.
عاش بولس في المدينة فاستقى منها الكثير من تشابيهه. تحدَّث عن الذين يسابقون في الحلبة، عن المسرح، وعن المحاكم...
كان بولس مواطناً رومانياً منذ مولده (أع 22: 25- 29). هذا يفترض أن
عائلته كانت غنية، وأنها كانت منفتحة على العالم الوثني لتشارك في إدارة
المدينة. وهذا الانفتاح أتاح لها أن تعطي لهذا الولد ثقافة متينة وتربية
واسعة.
2-
طالب في طرسوس وفي أورشليم
وُلد بولس في عائلة فريسية فانطبع بها على المستوى الديني: عرف منذ صغره
جوهر الشريعة ومعنى أعياد شعبه. ذهب إلى المدرسة المتاخمة للمجمع، وبدأ في
سنّه العاشرة دراسة التوراة الشفهية وتعلّم لغة الكتاب المقدّس.
تربّى بولس تربية دينية كما نال تربية مهنية مطلوبة من كل الرابانيين.
تعلّم صناعة حياكة الخيم (أع 3:18). وقد تكون مهنة أبيه التي أخذها،
فأتاحت له أن يعمل بيديه ليبشّر الجماعة دون أن يثقل عليها.
وعرف بولس العالم اليوناني وتأثّر به. فرسائله تدلّ على أنه ألمّ
بالمواضيع الرئيسية في العالم الرواقي. وسيذكر في خطبته إلى أهل أثينة ما
تعلّمه من بعض الشعراء.
ولمّا بلغ بولس سن الرابعة عشرة، ذهب إلى أورشليم، المدينة الجامعية
اليهودية، ليتابع دروسه فيها (أع 3:22). كان معلمه جملائيل، وهو عضو في
السنهدرين يحترمه الشعب كلّه، وقد دافع بشجاعة عن الرسل، فدلّ على حسن
ايماني وعلى اهتمام باكتشاف كلمّة الله في الأحداث (أع 5: 34- 39). تلقن
بولس عند قدميه تراث شعبه الديني، وتعلّم الأمانة للشريعة والغيرة عليها،
كما حفظ التقاليد. وهكذا بدأ بولس فعرف الشريعة وعاشها قبل أن يتكلّم عن
قداستها وحدودها ويُعلن أن المسيح حرّرنا من نيرها.
كم أقام بولس في أورشليم؟ هذا ما لا نعرفه. ولكن ما هو أكيد هو أنه كان
هناك يوم قام يسوع برسالته. لم يتخّذ بولس موقفاً من هذا النبي الجليلي
ولا يقول إنه التقى بيسوع. كل ما يذكره هو أنه اضطهد الكنيسة (غل 1 :13؛
أع 22: 20).
3-
رؤية دمشق
بدت المسيحية الفتية خطراً كبيراً ليهودي متديّن مثل بولس: "كنت أعتقد أنه
يجب أن أقاوم اسم يسوع الناصري بكل جهدي" (أع 9:26). إضطهد المسيحيّين
ووافق على مقتل اسطفانس (أع 22: 20؛ 26: 10 ي). وذهب إلى دمشق ليوقف
المسيحيين ويعود بهم مقتدين إلى أورشليم. ولكن في الطريق "أمسكه " (أسره)
المسيح القائم من الموت (فل 3: 12) فحوّله من مضطهد إلى رسول.
يتحدّث بولس في رسائله مراراً عن اجتياح المسيح لحياته (غل 1: 15 – 16؛ 1
كور 8:15- 10). ويشدّد لوقا على حدث دمشق في سفر الأعمال: يروي ثلاث مرات
خبر دعوة بولس (أع 9: 1- 19؛ 22: 3- 21؛ 9:26- 18) ليدلّ على أهميتها. يجب
أن نقرأ هذه النصوص لنكتشف كيف دخل المسيح المنبعث في حياة بولس، كيف ظهر،
كيف كشف عن نفسه، وكيف دعا ذاك الذي سيرسله ليشهد لاسمه.
إن رؤية يسوع على طريق دمشق قلبت نظرة بولس إلى الأمور وسارت بإيمانه
اليهودي فوصلت به إلى الإيمان بيسوع المسيح وابن الله الذي حقّق رجاء
إسرائيل: هذا هو ارتداد بولس إلى المسيح القائم من الموت. ثمٍ إن رؤية
دمشق هي أيضاً دعوته كرسول: ظهر المسيح له وجعل منه رسولاً وشاهداً
للقيامة: "أما أنا رسول؟ أما رأيت ربّنا يسوع المسيح " (1 كور 9: 1)؟ وهذا
الظهور جعل من بولس رسول الأمم. هذا ما سيفهمه شيئاً فشيئاً. إنه يتكلّم
عن دعوته ويجعلها في امتداد دعوة المسيح عبد الله الذي جاء يحمل النور إلى
جميع الشعوب (أع 47:13).
كما أن رؤية اشعيا لله (6: 1ي) قررّت دعوة النبي وطبعت بطابعها رسالته،
هكذا طبعت رؤية دمشق رسالة بولس. لن نبحث مسبقاً كيف قدّم سرّ المسيح
والإنجيل، ولكنّنا نكتشف في رسائله مكانة المسيح المنبعث، وقوّة النعمة،
وتشديداً على جسد المسيح ("أنا يسوع الذي تضطهده "، أع 9: 5) وعلى اعلان
الإنجيل للوثنيين.
4-
بولس الإنسان
هذا الذي دعاه يسوع يتمتّع بغنى بشري وروحي عظيم. مفكّر عبقري، صاحب عاطفة
إنسانية ورقة في التعامل (روم 16: 13). محبّ ويعرف معنى الصداقة (غل 4:
15، 19). إنسان حقيقي لا يعرف الكذب، حازم وشجاع، متوازن ويعرف كيف يعطي
ذاته كلها. أعطى نفسه للمسيح ورسالته، وحمل همّ كل الكنائس (2 كور 28:11).
خاضع لنداءات المسيح (