التكريس الرهباني هو في آن واحد الكلمة
الأولى والأخيرة في سرّ الخلاص. الكلمة "ها أنذا أمة للرب" الأولى: جواب
أبينا ابراهيم "ها أنذا يا رب" الذي سيؤدي يوماً إلى جواب العذراء "ها
أنذا أمة للرب"...والكلمة الأخيرة، لأنه إذا كان الأنسان ق...د أجاب في
البدء وقال "ها أنذا"، فالله في النهاية سيقدّم ذاته كلّياً للإنسان:"ها
أنذا معكم إلى انقضاء الدهر". إن التكريس الرهباني هو الطريق الأكثر
امتثالاً لإرادة الله وتشبّهاً بسرّه، طريق اتّباع المسيح أكثر ما يكون،
طريق قد رسمه المسيح. لقد عيّن الرب طرقاً أخرى كافية لإطاعة شريعته. قال
للشاب الغني إن الوصايا الأساسية كافية. ولكن إن أردت لقاء الله يجب أن
تتبعني. 3 تجد الحياة الرهبانية معناها في الأوجه الرئيسية التالية: أ.
الحياة الرهبانية حياة فصحية: لأن الراهب يموت بالنسبة للعالم ويقوم مرة
أخرى بوعي جديد وإرادة مستنيرة وعطاء قلب كلّي. وذلك لا من أجل لا شيء بل
يقوم في الله. هي ذوكسولوجيا (تسبيح وتمجيد) ترتل لا بالشفاه فقط بل
بالكيان كله. بالخطيئة نرفض أن يظهر الله من خلالنا. أما الراهب فيريد،
على العكس، إبقاء الله حاضراً في العالم. إلى جانب الوجه التسبيحي هنالك
جهاد ونضال، لأن النضال هو الوجه الآخر للطابع الفصحي. إن الحياة
الرهبانية تُدخل الراهب في الجهاد الذي خاضه المسيح بالذات. ب. الحياة
الرهبانية حياة نبويّة: إنها حياة نبوية بالمعنى الأقوى للكلمة: النبي هو
من يصرخ (صوت صارخ...) . ثم هو من يرى. فالراهب يحيا في شفيف الله ويرى
اللامنظور.ثم يعلن لا بالكلام فقط بل بالصمت أيضاً، بطريقة حياته، يعلن أن
الإنسان لا يستطيع أن "يقيم" ويتبلّد، لا يحق له أن ينسى أن الله هو الله
وأن له حقوقاً علينا. الراهب كائن ثوروي يقترح تغيير الحياة. يطلب اهتداء
الناس ولذا لا يحب الناسُ الرهبان. الرهبان مثلاً يريدون الطاعة بدلاً من
الفوضى، وبدل اللذة العفة وبدل الغنى الفقر الذي هو ناموس الله...الحياة
الرهبانية تعلن ملكوت الله وتبشّر به وبهذا المعنى هي نبويّة. ج. الحياة
الرهبانية حياة رسولية: إن الرسل تتلمذوا على الله طيلة ثلاث سنين كاملة
ليكونوا شهوداً له. هذا شرط الرسالة ولهذه الغاية طلب الرب منهم أن يتركوا
كل شيء ليتبعوه. هذا عميق جداً. هذا يعني أن تجديداً حقيقياً للكنيسة لا
يمكن أن يأتي عن مسيحية جزئية تعطي لله جزءاً من وقتها...لو أن بطرس
وأندراوس ومتى وبقية التلاميذ لبّوا نداء المسيح بأن عاشوا حياة صالحة
مثابرين على حياتهم العادية ومجتعين مع المسيح ساعة كل يوم أو كل أسبوع
...لما كانت الكنيسة قد تأسست. فبهذا المعنى الحياة الرهبانية حياة رسولية
في الأساس، حياة مرسلة من الله لإعلانه إعلاناً كلّياً خالصاً. د. الحياة
الرهبانبة حياة تأملية: إنها الحياة الداخلية، والحياة الداخلية هي الحياة
مع الله. الحياة في العالم ليست محتقرة: لكنها تعكس الله بصورة غير
مباشرة، أما الراهب فيتوق إلى معرفة الله المباشرة. الراهب يرى العالم
بالله فهو يسعى إلى الله معتزلاً العالم. هـ. الحياة الرهبانية حياة توبة:
لا خلاص من دون توبة. التوبة (باليونانية Metanoia) تعني تحولاً في
الإنسان، انتقالاً من حالة إلى حالة. "أنسى ما ورائي وأمتد بكل نفسي إلى
ما أمامي" (فيلبي 13:3). إنها السعي نحو الله لا ينقطع، الله هو الحقيقة
الوحيدة التي لا يُشبع منها، وفي التوبة جوع إلى الله وعطش إليه لا حدّ
لهما. النفس بطبيعتها تريد الله وتحبه. كل سعادة غير الله تُستنفد وتنتهي
لأنها محدودة، النفس في ملذات العالم تفتقر بدلاً من أن تستغني، وتفقد
حريتها وقوتها. سعادة العالم سعادة مزيّفة ولذلك نرى العالم فريسة للقلق
والجزع: السلام هو في الله اللامتناهي. النفس الني تنهمك في الأهواء تفرغ
وتموت، و"نسك" الراهب ليس سوى حرب ضد موت الأهواء. إن التوبة كما اختبرها
القديسون وعبّروا عنها في الكنيسة تجمع دائماً بين ضدين: الشعور بخطيئة
الإنسان وصغره من جهة والشعور بقداسة الله وعظمته من جهة ثانية. فهنالك
الكثير في الصلوات الكنيسيّة الأرثوذكسية ترداد لكلمة يا رب ارحم. صلاة
يسوع هي طلب للرحمة: يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطىء. لأن التوبة
هي عمل مستمر. إن كل "وصول" إلى الله صنم وعبادة أوثان، و"الحصول على الله
هو بالضبط التفتيش عنه دون انقطاع (غريغوريوس النيصصي). وهذا لا يتوقف بعد
الموت بل يستمر في الحياة الآخرة، وليست حياة الراهب سوى تذوّق مسبق لطعم
الأبدية. على الراهب أن لا يقف أبداً في عمل التقدم الداخلي وألا ينتظر
نتيجة ومفعولاً لجهاده حتى الموت. و. الحياة الرهبانية حياة تمجيد
كالملائكة: إن الحالة الرهبانية حركة، ولكون الملائكة في هذا الوضع،
لكونهم "يجدون" الله تنبعث منهم تلقائياً صرخات التمجيد بلا انقطاع.
والرهبان أخذوا على عاتقهم تمجيد الله على الأرض والترتيل له بصورة دائمة
بالمزامير والصلوات. ز. الحياة الرهبانية تُجَدِّد الذهن وتُعطي معرفة: إن
الحياة الرهبانية تجدّد نشاط الراهب وتخلق ذكاءه خلقاً جديداً. إن بولس
الرسول يوصينا بأن "جددوا أذهانكم" (رومية 2:12) وأن "ليكن فيكم فكر
المسيح" (فيلبي 5:2). فالإنسان المسيحي (الذي له