حينما قام المسيح أقامنا معه ، وحينما صعد أصعدنا معه إلى السماء وأجلسنا معه عن يمين الآب .. المسيح باكورة ، ثم الذين للمسيح عند مجيئه. 1 كو 15 : 23
الأخت ليلى ، شابة فى مقتبل العمر ، طبيعية فى كل شئ ، ليس ما يميزها ، حسب الظاهر ، عن الآخرين ، فهى ليست خادمة ، وليس لها دور بارز فى الكنيسة ولا إسم رنان بل شابة عادية من شابات الكنيسة بالقاهرة .
تزوجت بقريب لها بالإسكندرية وسكنت مجاورة لكنيستنا ، كانت تحضر القداسات والعشيات ، قليلة الإختلاط بالناس ، وكانت من حين إلى حين تأتى معترفة لله أمامى فى أثناء العشيات .
والحق ، كنت أحسد هذه الأخت على نقاوة قلبها وشفافية روحها ، كيف تحتفظ بهذا القلب البرئ والنفس التى لم تتسخ بالعالم رغم أنها صارت أماً لطفلين !
كانت فى حياتها الزوجية مثلاً رفيعاً للإخلاص والمودة ، وقد نفذت حرفياً وصية الرب « لا تغرب الشمس على غيظكم » .. لم يمضِ يوم واحد وهى فى خصام مع زوجها ، وإن حدث شئ من سوء الفهم كانت تـُسرع إلى الصفح والإعتذار ، فظل قلبها نظيفاً نقياً ، إستحق تطويب الرب « طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله » .
كانت إبنتها الكبرى أربع سنوات ، وكان طفلها الصغير إبن سنتين.. كان متعلقاً بها بشكل مثير أقلق مَن حولها من أهلها ، فهو لا يستطيع أن يفارقها لحظة واحدة ، حتى أنها ما كانت تستطيع أن تدخل الحمام بدونه ، إلا أنها كانت هادئة دائماً مملوءة سلاماً لا تنــزعج من شئ .
حضر زوجها من عمله بعد الظهر ، حسب عادته ، فوجد كل شئ فى المنــزل كالعادة جميلاً نظيفاً ، وقد أعدت له الطعام ورتبت المائدة ، كل شئ على ما يُرام .
تناولوا الطعام ، وارتاح الزوج قليلاً وتهيأ للخروج إلى عمله فى الفترة المسائية ، لكنها استوقفته ودار بينهما الحوار الآتى :
هى : لا تنــزل اليوم .
هو : " بعدما تعجب جداً " .. لماذا ؟
هى : أنا عاوزاك !
هو : ماذا تريدين ؟ ألا تعلمين أننى مرتبط بالعمل ولا أستطيع أن أتأخر .
شددت عليه الطلب ، وزاد هو فى الإستفسار ..
هى : أنا سأموت اليوم .
كاد زوجها يُشل تفكيره ، وهو واقف أمامها فى ذهول .
هو : إنك فى كامل الصحة وريعان الشباب ! يشهد بذلك ذلك المجهود الضخم الذى بذلتيه اليوم !
هى : أرجوك ، هذا ما سيحدث !
ولم تكد تنطق بهذه الكلمات حتى جلست على كرسى كان بجوارها وشحب لونها فى لحظات وغابت عن الوعى .
وقف الزوج فى ذهول مما يحدث حوله ، يكاد لا يصدق أنه فى صحوه ، وبدأ يصرخ والأطفال حوله فى منظر مأساوى مثير للغاية .
بدأ يضرب بيده على خدها لعلها تفيق من إغمائها ، فإذ بها تفتح عينيها ثم تقيأت ، وتنفست وعادت إلى وعيها .
كاد الزوج يطير من الفرح وقال لها : نشكر الله أنتِ بخير ، لقد كدت أجن من لحظات .. فقاطعته قائلة : إسمع ، لقد مُتُّ فعلاً وذهبت إلى الفردوس وتقابلت مع كثيرين من الذين إنطلقوا ، وتكلمت مع بابا ( وكان قد سبقها إلى السماء منذ سنوات ) وقال
لى : لا يا إبنتى ، أنتِ صغيرة وأطفالك صغار ، عودى إليهم ! ولكن لا ، أنا عارفة أننى سأموت أيضاً ، السماء جميلة ، أرجوك .. تمسك بالله واحفظ وصاياه وربِّ الأولاد فى مخافة الرب !
وإذ قالت هذا رقدت فى الرب . حاول الرجل أن يعمل كل ما فى طاقة البشر ، لكن الأمر كان قد صدر من قِبَلِ الرب .
ساعات قليلة وكان الجميع فى المنــزل . كان إلى جانب هذه الأحداث المفجعة موضوع يطرح نفسه بشدة وقسوة : مشكلة الطفل الصغير شديد التعلق بأمه ، وتصور أغلب الحاضرين أن هذا الطفل لن يعيش طويلاً بعد أمه ، سوف يموت من الحزن عليها . الذى لم يحتمل غيابها إلى لحظات .. كيف يحتمل غيابها إلى الأبد !
لكن الله ، حافظ الأطفال الصغار ، قد أكرم هذه الأم البارة وعَزى من حولها ، وكشف أنها ، وهى فى السماء ، تستطيع أن تخدم أطفالها وتشفع فيهم ! فقد أعطى الله هذا الطفل سلاماً عجيباً فلم يطلب أمه ولا بكى ، حتى بعد شهور من رحيلها ، عندما كانوا يعرضون بعض الصور الفوتوغرافية أمام الطفل ، كان يتعرف على جميع مَن فى الصور من الأقارب ويناديهم بأسمائهم ، إلى أن ياتى إلى صورة أمه ، وكأنه لا يعرفها ، فكان يصمت ولا يجيب !
وعاش الطفل طبيعياً ، وقد سكب الرب فى قلبه وباقى أسرته عزاءاً فوق العادة ، وكانت قصة إنطلاق هذه البارة سبب توبة وعزاء للكثيرين !
وقد أعادت أحداث هذا الطفل إلى الأذهان ، قصة إحدى الشهيدات الموعوظات ، التى وضعت ( ولدت ) طفلها وهى فى السجن على ذمة الاستشهاد ، فإحتجز الحراس طفلها ، وكانوا لا يطعمونه لمدة يوم كامل ، ويحاولون أن يأتوا بالطفل وهو يصرخ أمامها ، لكى يثنوها عن إيمانها ويؤثروا على عاطفتها كأم . أما هى فكانت تصلى بحرارة شديدة ، وكانت النعمة تشبع الطفل الرضيع فيكف عن الصراخ !