مقدمة:
كما لُقب القديس يوحنا الرسول بيوحنا الحبيب ويوحنا الرائي، ولُقب أثناسيوس الإسكندري بأثناسيوس الرسولي وأثناسيوس الكبير وحامي الإيمان، ولُقب كيرلس الإسكندري بكيرلس الكبير وعمود الإيمان، ولُقب غريغوريوس النزينزي بغريغوريوس الناطق بالإلهيات (اللاهوتي)، كذلك لُقب يوحنا بطريرك القسطنطينية من سنة 398 إلي سنة 407 بيوحنا الذهبي الفم أو يوحنا فم الذهب chrysostomos} وهي كلمة يونانية ΧΡΥΣΟΣΤΟΜΟΣ تتألف من مقطعين أو كلمتين chrysos أي (الذهب) ثم stomos الصفة المشتقة من stoma أي (فم){، وذلك اعترافا بفصاحته وبلاغته وجمال أسلوبه وعبارته، وقوة كلماته، وتأثير عظاته معنى ومبنى.
كما ويوصف القديس يوحنا الذهبي الفم كاهن أنطاكية ورئيس أساقفة القسطنطينية في الخدم الليتورجية بكثير من الصفات فهو "واعظ المسكونة الأول" الذي "صان عقله نقيا من الأهواء" و "صار مماثلا لله" بعدما امتُحن "بالتجارب كالذهب في النار". وهو "الآلة الملهمة من الله" و "العقل السماوي" و "عمق الحكمة" و "الكارز بالتوبة" و "نموذج المؤمنين" و "الملاك الأرضي والإنسان السماوي". وهو كذلك "خزانة أسرار الكتب" و "اللسان الذي بمحبة بشرية رسم لنا طرق التوبة المتنوعة" وهو أيضا "أبو الأيتام والعون الكلي الحماسة للمظلومين ومعطي البائسين ومطعم الجياع وإصلاح الخطأة وطبيب النفوس الحاذق الكلي المهارة". كل هذه الباقة من الصفات التي قلدت الكنيسة بها قديسها العظيم إنما تدل على مكانته المميزة فيها وعلى الدور الهام الذي لعبه في حياتها.
حياته:
لم تكن حياة الذهبي الفم هادئة ولا سهلة، فقد كان ناسكا وشهيدا. نسكه وأعماله البطولية لم تتحقق في الصحراء بل في فوضى العالم على مقرأ البشر وعلى العرش الأسقفي. استشهاده كان أبيضا بلا دماء. أنهى حياته في السلاسل وفي المنفى وتحت الحرم والظلم ومضطهدا من المسيحيين من أجل إيمانه بالمسيح والإنجيل الذي بشر به على أنه كشف وقانون حياة.
أنجبته أسرة نبيلة بين 344 و354 للميلاد. أبوه كان قائدا للجيش الشرقي في الإمبراطورية وكان وثنيا وقد رقد بعد ولادة يوحنا بقليل. والدته أنثوسا التي ترملت في سن مبكرة جدا ربّته على محبة المسيح رافضة الزواج ثانية مكرسة حياتها لتربية ولدها وابنتها التي كانت تكبر يوحنا ببضع سنوات لهذا وضعتها الكنيسة في رتبة كبيرات الأمهات المسيحيات على غرار كنونا أم القديس غريغوريوس اللاهوتي ومونيكا أم أوغسطينوس المغبوط.
منذ حداثة سنه أحب الفلسفة والخطابة فالتصق بالمعلم الشهير ليبانيوس الذي أخذ عنه فنون الخطابة والآداب الإغريقية. أحبه معلمه لدرجة كبيرة لما تمتع به من الذكاء والحكمة والقدرة على الخطابة ولهذا عندما سئل قبل وفاته بمن يوصي معلما بعد موته أجاب: "بيوحنا لو لم يكن المسيحيون قد سرقوه مني!". وكاد يوحنا يتيه عن نفسه في جو الإعجاب الذي أحاط به وهو شاب صغير، لولا أن تلقفته يد صديق مخلص هو حبيب عمره (باسيليوس) الذي رافقه وزامله، وزين له حياة القداسة، وأقنعه ببطلان الحياة الدنيا وأبرز له تفاهة الأرضيات بإزاء السمائيات، وزوال الزمنيات بإزاء الأبديات، فأصغي إلى نصائح صديقه، وتنبهت فيه تعاليم أمه (أنثوسا) التي أرضعته إياها مع لبن الرضاعة، فتشددت روحه، واعتزم على أن يتبتل منقطعا لخدمة الله في أحد الأديار، فعلمت أمه بذلك، ومع ابتهاجها بتقواه ومسيرته في طريق الكمال المسيحي، إلا أنه آلمها أن يتركها وحيدة، وهي التي بذلت في سبيله حياتها، فأخذت تبكي متضرعة إليه أن يرجئ أمر رهبنته حتي توفي أيامها وتنتقل إلي العالم الآخر، فبكي لبكائها، واقتنع بكلامها، وعدل مؤقتا عن مفارقتها، وبقي معها في البيت عابدا، وكان لا يخرج إلا لعمله ثم يعود إلى عكوفه مستغرقا في الأسهار والأصوام والصلوات. وفي هذه الأثناء رسمه البطريرك ملاتيوس (360-381) شماسا برتبة (قارئ) للفصول الكنسية (أناغنوستيس) وظل يخدم مع البطريرك مدة ثلاث سنوات ثم في عام 386 حصلت رسامة يوحنا الكهنوتية على يد البطريرك فلافيانوس. وحدث أن توفي اثنان من أساقفة الكرسي الأنطاكي، فكان طبيعيا أن تتجه الأنظار إلي (يوحنا) وإلي صديقه (باسيليوس) الذي كان قد انتظم في سلك الرهبنة. ولما كان يوحنا يعرف ما اتصف به باسيليوس من فضائل، فقد استدعاه إليه، فلبى دعوته وترك صومعته ونزل إليه، فأخذ (يوحنا) يلح على باسيليوس بقبول الرسامة، فاعتذر باسيليوس بحرارة وشدة، ولم يثنه عن رأيه إلا وعد من صديقه يوحنا بأن يقبل هو أيضا السيامة الأسقفية بعد أن يقبلها باسيليوس، وهكذا نجح يوحنا في رسامة باسيليوس أسقفا علي مدينة (رافانه) بالقرب من أنطاكية. أما يوحنا نفسه فلما جاء دوره للسيامة هرب منها واعتزل في أحد الأديرة البعيدة، فأرسل إليه صديقه باسيليوس يؤنبه على تخليه عن وعده له وخيانته لعهده معه، فكتب إليه (يوحنا) لا خطابا بل كتابا، في عظمة سر الكهنوت وجلاله، من أعظم ما خلفه لنا آباء الكنيسة من تراث أدبي روحاني لاهوتي. بعد وفاة أمه عاش في رهبنة مشتركة مدة ست سنوات توّحد بعدها في إحدى المغاور ولدرجة نسكه وتقشفه مرض واضطر للقدوم إلى أنطاكية للمعالجة التي بقي فيها بتدبير إلهي. ولما كان النسك بالنسبة ليوحنا هو توجه روحي أكثر منه تنظيم معين للحياة اليومية وهذه الحالة يمكن تحقيقها أولا بواسطة التخلي ونكران الذات، وعبر الحرية الداخلية والاستقلال عن الظروف الخارجية وشروط الحياة في العالم هكذا عاش ناسكا طيلة حياته باستقلال عن مكان وجوده. لهذا لم يحث الناس على الانسحاب من العالم وترك المدن بل كان يرغب بتحويل الحياة فيها لتتوافق مع مبادئ الإنجيل "صليت كثيرا في هذه السنوات أن تختفي الحاجة إلى الأديار وهذا لأنني سأكون قادرا أن أجد حتى في المدن صلاح ونظام الأديرة فلا يطلب أحد ثانية الهروب إلى الصحراء".